ثورة قطاع التعلّم الذاتي

ثورة قطاع التعلّم الذاتي
ثورة قطاع التعلّم الذاتي
بقلم: طلعت العواضي - مدرّب دولي
نحن نعيش حالياً في عالم يتغير بسرعة على أساس يومي تقريباً أمام أعيننا، مما يجبرنا على التكيّف بطرق لم نضطر إليها من قبل ومما لا شك فيه أن طريقنا للبقاء والنمو في هذه الأوقات الصعبة من التغيير والاضطراب هو أن نكون مرنين واستباقيين ومبادرين.
وقد أثر التحول الرقمي بشكل كبير على الأعمال التجارية من خلال تقديم نماذج أعمال جديدة وأنواع جديدة من المنتجات والخدمات وتجارب العملاء واضمحلال أنواع أخرى من المنتجات والخدمات وهنا سنتحدث عن خدمة رقمية جديدة تنمو بشكل كبير.
إن إحدى المجالات التي تتغير بسرعة كبيرة هي صناعة المعرفة أو كما يحلو للبعض تسميتها قطاع التعلّم الذاتي، ورغم أن صناعة المعرفة تشمل تأليف الكتب وتقديم الدورات التدريبية وتقديم الاستشارات إلا أننا نرى تراجعاً كبيراً في الإقبال على الكتب وعزوف الناس عنها مقابل إنتاج الدورات التدريبية، وعند إلقاء نظرة سريعة على منصات التعليم الإلكتروني نرى حجم النمو في هذه المنصات بشكل كبير سواءً في عدد الدورات التدريبية التي وصلت في بعض المنصات إلى 500 ألف دورة تدريبية متنوعة في مختلف المجالات أو لعدد المنصات التي تتزايد باستمرار.
هنا مجلةForbes وهي إحدى المجلات الاقتصادية المعتبرة في العالم تنبأت في عام 2010م بأن التعليم عن بعد ستصل مبيعاته إلى 107 بليون دولار عام 2015م وهذا ماحدث فعلاً والأن يتنبأ محللوها الاقتصاديون أن يقفز الرقم إلى 325 بليون دولار في عام 2025م هذه التقديرات قبل جائحة كورونا، ويعتقد أن يتجاوز هذا الرقم بكثير بعد تأثير هذه الجائحة.
فتقوم هذه المنصات بتعليم الناس وتدريبهم وتجهيزهم بطرق ومجالات مختلفة من خلال برامج التدريب والدورات الرقمية والفعاليات.
ما رأيناه في السنتين الماضيتين منذ ظهور وباء كوفيد 19 هو زيادة الطلب على هذه البرامج بشكل كبير جداً، وهنا أضرب مثالاً على أهم البرامج التدريبية التي أقدمها أنا شخصياً ألا وهو برنامج إدارة المشاريع الاحترافيةPMP هذا البرنامج التدريبي الذي يؤهل المشاركين للحصول على شهادة احترافية مهمة جداً في العالم، فإحصائيات المعهد الأمريكي PMI الذي يمنح هذه الشهادة يذكر أنه منذ عام 1983م أي منذ 40 عاماً حصل على هذه الشهادة وتم اعتماد أقل من مليون شخص بينما منذ عام 2020م بداية وباء كوفيد 19 حصل عليها 200 ألف شخص، هذا دليل كبير على توجّه الناس للتدريب ودليل على أن كثير من الأفراد يبحثون عن طرق لإعادة تدريب أنفسهم وتغيير وتحسين موقعهم مهنياً وشخصياً لما بعد كورونا.
هنا أسرد أهم ثلاث تنبؤات للتغيير في صناعة التعليم الذاتي في السنوات القادمة حسب ما يراه محللون اقتصاديون وخبراء في هذه الصناعة على أرض الواقع الآن وحسب ما نراه نحن من خلال تجربتنا:
1- سينمو الطلب على البرامج المتخصصة والتدريب والمرافقة والاستشارات بسرعة في الاقتصاد الجديد وذلك على حساب التعليم التقليدي:
في دراسة لعدد الأشخاص الذين قاموا بالتسجيل في التعليم التقليدي في الجامعات في الولايات المتحدة منذ الكساد العظيم 1929م -في الغالب على مستوى الدراسات العليا، ولكن أيضاً على المستوى الجامعي- فسترى أنه يتراجع بشكل كبير.
كما أن المفهوم التقليدي لدى الكثير من الناس بأن التعليم التقليدي (الجامعي) سيزيد من دخلك المادي وسيساعدك على التقدّم في حياتك المهنية، لم يعد له نفس القيمة كما كان من قبل ويرجع ذلك إلى العديد من العوامل، بما في ذلك ارتفاع تكلفة الرسوم الدراسية ونفقات المعيشة أثناء الدراسة الجامعية، وزيادة تكلفة التضحية لترك الوظيفة والتخلي عن الراتب والمزايا أثناء وجوده في الجامعة لإكمال دراسته، وعندما يتخرج الشخص لن يكون هناك سوق عمل مؤكد أو وظيفة مؤكدة، وهذا ما نلمسه أيضاً في العديد من الدول وليس فقط في أمريكا فكثير من أرباب الأعمال لا ينظرون إلى الشهادة الأكاديمية عندما يتقدم الشخص لطلب الوظيفة بقدر ما يركزون على المهارات التي يمتلكها هؤلاء المتقدمين للعمل حيث توفر هذه المنصات (منصات التعليم الإلكتروني) المهارات والمعارف المتخصصة.
وما نراه هو أن الناس يبحثون عن طرق جديدة لتعلّم المهارات العملية الواقعية التي سيحتاجونها للازدهار والتقدم في مجالات تخصصهم، ونرى أيضاً أشخاصاً يرغبون في التعلّم والتدرّب والحصول على المعرفة من المعلمين والممارسين أصحاب الخبرة والمعلمين الذين لهم إسهامات ونتائج في المجال الذي يريد أي شخص أن يتعلم فيه، وليس من أشخاص أكاديميين يقدمون نظريات محضة، فتجربتي أنا الشخصية في دراسة الماجستير في إحدى الجامعات الماليزية لم أستفد شيئاً من الأستاذ الجامعي الذي كان يدرسني ريادة أعمال وكيف ينمو مشروعك وهو لا يزال موظفاً في الجامعة ليس لديه أي خبرة عن المشاريع وريادة الأعمال، وبينما كنت تراني أقفز من قاعة تدريبية إلى أخرى لكي أتعلم من أشخاص لديهم خبرة في ريادة الأعمال بالرغم من ضعف التحصيل الجامعي لديهم، ونفس التجربة هذه وجدتها عند العديد من أصدقائي يدرّسون في جامعات أخرى..
نما سوق صناعة التعليم الذاتي بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية ومن المتوقع أن يستمر في النمو مع تضخم هذا الاتجاه بشكل أكبر، نظراً للحاجة إلى إيجاد المهارات العملية والخبرة والفرص للحفاظ على الوظيفة أو الحصول على وظيفة أو زيادة دخل الفرد والبحث السابق الذي قدمته مجلةForbes يؤكد على ذلك.
2- سيكون تقديم خدمة التعليم والتأهيل والتدريب افتراضي (أون لاين) وهو الاتجاه الجديد:
هذا الاتجاه الذي نراه هو أن نموذج تقديم الخدمة التدريبية والتعليمية سيصبح افتراضياً أون لاين بشكل متزايد، مما يعزز التوزيع غير المحدود للمعرفة عبر الإنترنت، باستخدام تقنيات وتكنولوجيا منصة إدارة الفيديو والتعلم لتقديم التدريب والتعليم الذي يطلبه المستهلكون لا سيما بالنظر إلى الجائحة الحالية ومخاوف العدوى، ومع إغلاق العديد من برامج التعليم التقليدية في الجامعات أو الحد من تدريبهم الشخصي، نرى أن هذا أصبح معياراً لكيفية قيام الأشخاص بالتثقيف الذاتي ورفع مستوى مهاراتهم وإعادة التدريب على عمل جديد في هذا الاقتصاد الجديد.
ستستمر برامج التدريب الشخصية والمهنية والدورات الرقمية في مختلف المجالات الموضوعية وأنماط التعليم الذاتي الأخرى لتقديم الخدمة في تقديم مجموعة واسعة من فرص التعلم المدفوع غير المتزامن (المسجل) بحيث يتيح للشخص التعلم في الوقت والمكان المناسب له.
3- سعر هذه البرامح والدورات سيرتفع وستصبح التخصصات أكثر وأدق.
مع استمرار تكثيف الابتكار وزيادته بمعدلات جديدة ومثيرة، سيحدث أيضاً ظهور العديد من المجالات والتخصصات الدقيقة والقطاعات الأخرى، وسيؤدي ذلك إلى دفع مزودي خدمات التعليم الذاتي (أصحاب المنصات التدريبية) على تلبية الطلب وإنشاء محتوى وبرامج ومنتجات وخدمات جديدة لهذا المستوى الجديد من التخصص، فمنذ أربعين عاماً رأينا معهدPMI يقدم 8 دورات وبرامج متخصصة في إدارة المشاريع لكن خلال السنة الماضية فقط أضاف 5 برامج أخرى تخصصية جديدة وهناك أمثلة كثيرة على تفرع العلوم بشكل كبير جداً وتعدد التخصصات ومن المتوقع ظهور المزيد والمزيد من الخبراء والمدربين والعلامات التجارية الشخصية لتلبية هذه الحاجة، وسيزداد التخصص ، لهذا السبب وبالطلب المتزايد من المرجح أيضاً أن ترتفع الأسعار لهذه البرامج والخدمات.
فهذه ليست سوى بعض الاتجاهات التي نتوقع أن تكتشف في السنوات القادمة في صناعة التعليم الذاتي أو ما يُسمى بصناعة المعرفة، حيث يتكشف الاقتصاد والعالم الجديد ويطرح تحديات جديدة لكن هذه أيضاً فرص جديدة لأولئك المستعدين لاقتناص الفرص.