اصنعوا صقورا لا ديكه ..

اصنعوا صقورا لا ديكه ..

اصنعوا صقورا لا ديكه ..

نحو بناء مهني للكفاءات يصنع خبراء لا مدراء

▪ بقلم / عمار البذيجي

 

▪ عرف الديك وهوس الألقاب الإدارية:

يمثل الديك في ثقافتنا العربية رمزاً للسلطة والزعامة وامتلاك القرار في السياسة والإدارة والحياة الاجتماعية والسياسية، والحكم والأسرة كما هو في الحياة المهنية، والإدارة ذات الديك الثمين المتمثل في المنصب الإداري كأحد أهم المصادر للدخل المرتفع، والرفاهية والامتيازات والحظوة والنفوذ، وحتى الحضور المجتمعي والمكانة، والتي تتحدد جميعها بحسب حجم وشكل ولون العرف تبعاً للمنصب الإداري، واللقب والدرجة والشركة والبيئة المجتمعية ...الخ.

 

ولأن الهوس بالسلطة نزعة إنسانية جامحة وجزء من ثقافة وفكر مجتمعنا العام والمهني، فإن معظمنا إن لم يكن جميعنا نضع خطوتنا الأولى في الحياة المهنية، وأعيننا على عرف الديك باعتباره الغاية والحلم والطموح الكبير، الذي يوقد شغفنا ويشعل حماسنا ويلهم رؤانا لنتعلم ونتطور ونتدرب، ونتميز ونثابر ونعمل على تقديم أفضل ما عندنا، باعتبار أن المعيار الطبيعي للترقي والنمو المهني ووضع أقدامنا على عتبة الحلم والطموح "عرف الديك " الذي نعول عليه في إحداث تحول استراتيجي في حياتنا، ومستقبلنا ومستقبل أولادنا، ويقودنا نحو الكثير من الأحلام الأخرى التي لا يصلها غالباً سوى تاجر أو مدير.

 

لذلك عادة ما تكون السنوات الخمس إلى السبع الأولى من حياتنا المهنية خصبة وثرية وزاخرة بالتطور والتعلم والتدريب والتنافسية، ولكننا نبدأ بعدها أو خلالها نفقد الأمل في الوصول إلى عرف الديك، ولو في المدى المنظور لأننا ندرك أن فرص الترقي والنمو الوظيفي ضمن المسار الإداري محدودة جدا، فضلا عن خضوعها للكثير من المعايير التفاضلية سوى الكفاءة المهنية والمهارات تدخل فيها الكثير من الجدارات والسمات الشخصية، والعلاقات والسلوك والطباع والتحيز والمحاباة وغير ذلك.

 

في الحقيقة ليس هذا هو جوهر المشكلة وبيت القصيد، هنا فالحياة كلها قائمة على هذا الأساس ففرص القيادة والإدارة في أي مجال من مجالات الحياة هي دائما محدودة وخاضعة للكثير من المعايير أحيانا، وللانطباع والعواطف في أحايين أخرى، كما أن وجود حلم وحافز طويل المدى ومسار مهني طموح لدى الأفراد هو أمر ملهم، يبعث على الشغف ويحافظ على استمرار جودة الحماس، ويخلق بيئة حافزة وذات تنافسية عالية على مستوى الأداء، وحفز الإنتاجية وتحسين الجودة والتطوير المستمر وتنمية المهارات، وتعزيز الولاء والانتماء، ولكن تبدأ المشكلة حين يبدأ الأفراد ينسحبون من ميدان المنافسة تباعا بدءا من السنوات الثلاث الأولى.

 

 

▪ كيف تفكر الإدارة التقليدية؟ ولماذا يفقد الناس شغفهم؟

السؤال الأهم لماذا يفقد الناس شغفهم خلال مراحل متفرقة في السنوات السبع الأولى من حياتهم المهنية؟

 

الجواب هو: بسبب نمط الفكر التقليدي للإدارة الذي يضع الموظف أمام مساق مهني ونمو وظيفي ضيق الأفق قصير المدى أحادي المسار، يسمح لنسبة قليلة من الكفاءات بالترقي والتطور في مستوى إلى مستويين ضمن المسار المهني، ثم يبدأ التنافس على الفرص القليلة من الوظائف الإدارية والإشرافية، بينما تفقد معظم الكفاءات فرصها في الترقي إلا وفق مسارات شكلية طويلة الأمد تبعا لسنوات الخدمة وليس للكفاءة.

 

والأكثر من ذلك أن كل الامتيازات والأجور العالية والمكافآت الحوافز والسفريات والتدريب الخارجي والمؤتمرات والمشاركات الخارجية مغلقة على الدرجات الوظيفية للمدراء وما فوقهم وبالتالي فإن النسبة القليلة تحظى بها بينما الغالبية العظمى تحرم منها.

 

من هنا تبدأ الإشكاليات تظهر وتتراكم التحديات أمام الأفراد والإدارة والشركة على حد سواء، ثم تتحول إلى شبكة معقدة ومتداخلة من الأسباب والإشكاليات والمظاهر والمعالجات الشكلية، التي تولد بعضها بعض وتعيد نفسها في ذات الحلقة المفرغة التي يطول الحديث عنها وعرضها في مقال واحد.

 

إن أهم ما يواجه الموظف والشركة والتداىة في ظل هذا النمط التقليدي هو الانسحاب التدريجي لشريحة كبيرة - قد تصل لثلثي فريق العمل - عن الواجهة، والتخلي عن طموحهم وأحلامهم، فينطفئ شغفهم وحماسهم، ويخفضون سقف توقعاتهم.

 

كما أن ترقية الموظف وفق كفاءته المهنية في النظام الإداري أحادي المسار يؤدي إلى قتل كفاءة مهنية متميزة قابلة للنمو إلى كفاءة إدارية فاشلة، بل حتى الكثير من الكفاءات المهنية الناجحة إداريا تدخل في الكثير من المهام وتتشتت وتدخل منطقة الراحة والجمود والروتين اليومي، وتتشتت بين المهارات والجدارات المهنية والإدارية، مع إعطاء أولوية عالية أو كلية للأخرى على حساب الأولى.

 

لكل تلك الأسباب يتوقف معظم من أفراد المؤسسة عن تطوير أنفسهم وتحسين قدراتهم، بما يؤدي لحفز خطط التطوير للمؤسسة، وتحسين الأداء وتجويده، ومواكبة التطورات المتسارعة حول العالم، خصوصا في المجال التقني والمهارات الصلبة والناعمة، والنظم والمفاهيم والسياسات، لعدم وجود حافز حقيقي يشدهم لذلك ولو على حساب أوقاتهم وأولويات حياتهم خارج أوقات العمل، مكتفيا ببرامج التدريب الداخلي مرة أو مرتين سنويا التي يحضرها كتغيير وليس كتدريب، فضلا عن تكررها وخروجها عن هدفها وفقدانها لقيمتها المضافة بسبب فقد الإدارة قبل الموظف لأهميتها.

 

ولأن العالم اليوم يتطور ويتقدم بشكل متسارع وتتغير بيئة وبنية ونظم وتقنيات وأدوات الأعمال والإدارة، وتتعقد الظروف أكثر وتتغير معايير وشروط التوظيف ووزن وتثمين المهن، بناء على ذلك يؤدي التوقف عن التعلم المستمر أو التأهيل الجزئي المحدود للأفراد والقيادات إلى نوع من التلاشي المستمر، الذي يفقد معه الفرد قيمته المهنية في داخل شركته، وفي سوق العمل المحلية والخارجية بمرور الوقت، حتى إذا قررت الشركة التحول ومواكبة العالم والمتغيرات انكشفت الفجوة بينها وبين كفاءاتها، واكتشفت ان لديها مدراء وأفراد لتسيير الأعمال وليس لديها خبراء ولا قيادات تنفيذية يشكل الكثير منهم عائقا لا دافعا، عالة وعبء ثقيل أكثر منها رافعة للتغيير والتحول.

 

فضلاً عما ينتج عن هذا النمط الإداري السائد في الإدارة والأعمال عربياُ ويمنياُ من ضعف الإنتاجية حيث يخفت الحماس، ويتراجع مستوى الأداء وجودته، وتتراجع قدرة المؤسسة على النمو والتطور إلا في نطاق محدود مدفوعا بالخوف من التقصير والعقاب، أو التقييم المتدني، أو الفصل من العمل، أو نقمة المدير، أو بالحوافز والمكافآت، أو ربما قد تنتعش الأمال ويرفع كثير من المنسحبين سقف تطلعاتهم مرة أخرى كلما حدث تغيير إداري أو هيكلة أو بدت مستجدات، لكنها سرعان ما تعود للانكماش، بالإضافة إلى تسرب الكفاءات وظهور الحساسيات والشعور بالغبن والدخول في دوامة من المطالب والشكاوي والتظلمات المتصلة بالأجور والعلاوات والامتيازات والحوافز والمكافآت والبدلات والترقيات والتأمينات التي يصعب معالجتها في ظل هذا النمط التقليدي للإدارة فينتج عنها بمرور الوقت انخفاض مستمر في الرضا الوظيفي وزيادة الاحتقان ونشوء الأزمات .... وغير ذلك من مشاكل الادارة

 

 

▪ ما الحل وكيف تفكر الإدارة الحديثة؟

في الحقيقة ما تزال معظم الشركات والمؤسسات العامة والخاصة في مجتمعاتنا تطبق وتتمسك بهذا النمط التقليدي القديم، محاولة التحسين والتطوير ومعالجة الإشكاليات التي تحدث معالجة إدارية وتنظيمية في إطار ذات النمط، كتوسع الدرجات، وزيادة السنوات المطلوبة للترقية، أو بزيادة الرواتب وغير ذلك، منتجة المزيد من الإشكاليات والتحديات الجديدة.

 

بينما الإدارة الحديثة ومنهجها التنظيمي الجديد وما تطبقه الشركات العالمية يعتمد على بناء مساق مهني للموظف، يسمح له بالنمو الوظيفي في مساريين متوازيين الأول المساق الإداري المعروف، والأخر مساق مهني موازي لا علاقة له بالإدارة ولا بالمناصب الإدارية وإدارة الأفراد، ولكنه يمثل مستويات ومناصب مهنية عليا بذات الدرجات والامتيازات والرواتب التي تمنح لما يقابلها من وظائف الإدارة الوسطى والعليا.

 

كما أن نظام الترقية والدرجات في النظام الحديث لا علاقة له بسنوات الخدمة مطلقا بل بالكفاءة وقائمة مهارات وجدارات الموظف فقد تصل بسنوات لأعلى منصب، وقد تظل عمرك في درجتك إذا لم تطور من ذاتك، كما أنه في هذا النظام لا توجد أية علاقة بين المسميات الوظيفية والدرجات والامتيازات كما في النمط التقليدي الذي يبنى على المسميات الوظيفية، بمعنى أن كل من له مسمى مدير مثلا أو مدير عام يكون مع من يحمل ذات المسمى في نفس الدرجة والمستوى  وبنفس الامتيازات.

 

ففي النظام الحديث يتم تحديد الدرجات والأجور والامتيازات وفق نظام مهني بحت يقوم على تقدير الوزن النسبي للوظيفة وليس لشاغلها، وذلك وفق وزن وتثمين وظيفي لكل وظيفة وفق محددات ومعايير كثيرة تجعل احيانا من وظيفة مدير إدارة في أوقات كثيرة أعلى من وظيفة مدير عام في الدرجة والمستوى والامتيازات.

 

لذلك يمكن اعتبار أن هذا النظام يمثل الحل الامثل والنظام الاكثر حفزا للكفاءات والمهم باعتباره يقوم على معايير مهنية بحتة، ومعايرة عادلة، ويفتح افقا واسعا وممتدا للكفاءات المتميزة والطموحة وذوي الهمم العالية من تحسين وتطوير أنفسهم، والاحتفاظ بشغفهم ليتحولوا إلى خبراء واساتذة وكبار الخبراء والمستشارين في مجالهم وربما يصبحون لاحقا مدراء ورؤساء تنفيذيين.

 

إنه نظام يحث ويشجع كل فرد على المزيد من المثابرة والتعلم واكتساب المعرفة والاستفادة من كل الفرص المتاحة داخل المؤسسة وخارجها وعلى منصات التواصل الإجتماعي ومنصات التعليم والتدريب عن بعد المجانية والمدفوعة لأن يصبح كل فرد خبيرا في مهنته ممتلكا لأحدث المهارات والجدارات المهنية والشخصية الناعمة والصلبة اللازمة لذلك، مواكبا لكل جديد فيها، ومتمرسا على كل ما يتجدد ويتطور من تقنيات ونظم وتطبيقات حديثة، ومطلعا متجدد الفكر بكل الافكار والمفاهيم والاتجاهات الحديثة في مجال نشاطه وما يحتاج إليه في مساقه المهني.

 

 

▪ لماذا عليك أن تكون خبيرا لا مديرا؟

قد يتساءل البعض أو يعترض هو محق، بأن النموذج الحديث للنمو الوظيفي أو المساق المهني ثنائي المسار، وما يتصل به لا يمكن استيعاب الكم الهائل من الكفاءات التي لا تجد فرصتها في مساق النمو الإداري ولا النمو المهني، لأنه ايضا محدود الفرص والوظائف في كل شركة مثله مثل وظائف الإدارة، كما أنه ليس كل فرد قادر على ان يصبح خبيرا أو أكثر من ذلك ولا الجميع لديهم القدرات والإمكانيات والفرص لتحقيق ذلك؟ خصوصا فرص التأهيل والتدريب في المؤسسة التي قد تتوزع وفق معايير مختلفة.

 

في الحقيقة لا أختلف مع طرح كهذا بل أتفق تماما معه، ولكن ما أنا متأكد منه ومتحمسا له هو أن العالم اليوم وبيئة أعمال الألفية الثالثة تحتاج صقوراً لا ديكة، وهو ما يوفره ويساعد عليه مساق النمو الوظيفي ثنائي المسار وما يتصل به من معايير وشروط الدرجات والترقية والاجور والامتيازات وتثمين الوظائف.

 

بل أنني أدعو الجميع شركات وقيادات وأرباب عمل ومدراء وموظفين إداريين وفنيين وحتى عمال إلى أن يصنعوا من أنفسهم ويصنعوا من منتسبي شركاتهم ومرؤوسيهم صقورا تحلق في الأفاق الرحبة وتكسب رزقها ورزق الجميع معها بمهارة وجدارة وسمو، لا أن يصنعوا ديكة متناقرة وأفراخ ملونة غير قابلة للنمو، أن يصنعوا خبراء مهنيين وإداريين وقيادات تنفيذية، لا أن يصنعوا مدراء تسيير أعمال وقيادات تشغيلية، وكفاءات متقادمة تجاوزها العصر والعالم.

 

أما لماذا ذلك، فللأسباب والاعتبارات الآتية:

1) التركيز على المسار المهني في مساق النمو الوظيفي يتوافق مع طموح الجميع سواء من يمتلك مهارات إدارية وقيادية أم لا، ومطلوب من الجميع سواء من سلك مساق الإدارة أو المساق المهني، وفي رأيي فإن التفرغ له أسرع في تحقيق حلمك والانتقال منه مباشرة إلى وظيفية قيادية عليا كمدير تنفيذي ورئيس تنفيذي مع امتلاك المهارات والتأهيل.

2) يساعدك المسار المهني على النمو المستمر بالتأكيد بشكل كبير أو أقل بحسب همتك وشغفك وسعيك وامكانياتك، لكنه في جميع الأحوال يضمن لك النمو المهني حتى تصبح خبيرا أو على من ذلك أو حتى مشروع خبير أو أخصائي على أقل تقدير وكل مستوى من هذه المستويات لكل منها درجتين وظيفيتين.

3) في جميع الاحوال يضمن التزام المسار المهني كمساق نمو وظيفي طويل الأجل النمو للجميع والترقي المرحل داخل المؤسسة أو خارجها لأنه يصنع من الجميع موظفا متمكنا وماهرا في مجال تخصصه يمتلك معرفة ومهارات وجدارات محدثة أو على أقل تقدير يجعله محتفظا بقيمتك المهنية في سوق العمل وغير قابل للاستبدال غالبا.

4) أن تتحول إلى خبير في مجال تخصصك وأعلى من ذلك أو أقل فانت لا تحتاج بالضرورة إلى أن تنتظر دورك لتحصل على فرصة ترقية شاغرة في المسار المهني أو مسار الإدارة في مؤسستك بل يمكنك الحصول على بدائل أفضل وأعلى عائد وفرص نمو في شركات عالمية بدوام كامل أو جزئي في مقر الشركة أو عن بعد ولن يؤثر ذلك على شركتك لان التنافسية على المسار المهني تجعلها تحتفظ بالأفضل دوما.

5) يمكنك كخبير في مجال تخصص بمهارات وجدارات عالية المستوى العمل الحر عبر مواقع ومنصات مختصة وتؤسس لنفسك اسما وعلامة تجارية تسوق لخدماتك او حتى تنشئ مشروعك الخاص بمرور الوقت.

6) لم يعد التدريب والتأهيل واكتساب المعرفة الحديثة وبناء العلاقات المهنية والاندماج مع سوق العمل والحصول على وظيفة مباشرة او عن بعد او عرض وتقديم الخدمات محليا واقليميا ودوليا حكرا على أحد او مقتصرا على نخبة الكفاءات بل هو متاح اليوم للجميع.

7) الأهم من ذلك كله تذكر دوما أن استراتيجية التوظيف لدى الشركات اليوم لم تعد تقبل كالسابق بتوظيف متوسطي الكفاءة وبنائهم بل تتخلص من متوسطي الكفاءة في صفوفها وتوظيف كفاءات متقدمة الكفاءة برواتب اعلى.

8) لم يعد هناك مكانا اليوم لما يسمى بالولاء والامان الوظيفي وغيرها من مفردات عفي عليها الزمن، بل صارت الشركات العالمية تفضل التجديد المستمر في دماء كفاءاتها بشكل دوري وتعويض السابقين ومتى سمحت لنفسك بالتلاشي في وقت يتطور العالم سريعا وتزداد شروط التوظيف تعقيدا لن تجد من يقبل بتوظيفك حينها.

لذلك سأظل أؤكد وأتبنى وأنادي الشباب والشركات العربية اصنعوا من انفسكم ومن منتسبيكم خبراء لا مدراء، لا تنشغلوا بعرف الديك شجعوا الناس على امتلاك الخبرة والمهارة والجدارة المحدثة والمواكبة دوما، لا الألقاب والمناصب والقيم المادية والعائد قبل امتلاك الخبرة وبناء الكفاءة وتعزيز التنافسية المهنية بمستوى عالي ومواكب.